بريد القراء.. إقصاء العلماء وتقديم الجهال، في واقع متفكك يكرس الغباء

2025-01-28

” ريف رس ” 28 يناير 2025

بقلم: الاستاذ مولاي الحسن بنسيدي علي

في عالم تحوّل فيه المعيار من الكفاءة إلى المجاملة، ومن العلم إلى المصالح الضيقة، أصبحت كثير من المحافل الثقافية والملتقيات العلمية مسرحًا لمشاهد تعكس انحراف القيم. ترى الجاهل الذي لا يفرق بين الألف والعصا يُقدّم، ويجلس في صدر المجلس، يُحيط به التملق، ويتنعم بالاهتمام والرعاية، بينما يقبع العالم، الذي أفنى عمره في البحث والعطاء، في مؤخرة الصفوف، غريبًا بين قومه، يتوارى حياءً أو تجاهلاً من المنظمين والمتحدثين.


في كل ندوة أو ملتقى ثقافي، نجد المشهد يتكرر: شخص لا يملك من الثقافة سوى صفة المنصب، يُدعى لاعتلاء المنصة، ويُغدق عليه الثناء، بينما العالم الحقيقي يُهمّش لأنه لا يمتلك سلطة ولا ينتمي إلى شبكة المصالح التي تحكم العلاقات. هذه الظاهرة لا تقتصر على الأفراد، بل تشمل حتى المؤسسات الثقافية، التي باتت تسعى لاسترضاء السياسيين أو أصحاب النفوذ على حساب الفكر والثقافة.


أصبح الجهال هم الوجه البارز، يُستمع إليهم رغم خواء عقولهم، ويُحاطون بالاهتمام رغم فقر مضمونهم. أما العلماء، فيُنظر إليهم على أنهم عبء ثقيل، لأن كلامهم صادق وصريح، ولأنهم لا يعرفون سوى طريق الحق الذي لا يخدم المصالح الضيقة.


تتعدى المشكلة حدود الأحقية إلى ما هو أكثر إيلامًا؛ إذ ترى البعض في تلك المجالس لا يراعون آداب الجلوس مع غيرهم. رائحة العفونة التي تفوح من أفعالهم، لا تنحصر في الأجساد، بل تشمل الأرواح أيضًا. هم لا يحترمون قواعد النقاش ولا آداب الحديث، يصخبون بالجهل، ويفرضون حضورهم الثقيل على الجميع.


ما يحدث ليس مجرد خلل عابر، بل أزمة عميقة تهدد جوهر الثقافة نفسها. فالثقافة ليست فقط في الكلمات التي تُقال، وإنما في الاحترام الذي يُمنح لصاحب العلم، وفي المكانة التي تُعطى لمن يستحقها. عندما تتحوّل الثقافة إلى تجارة، والمجالس إلى ساحة لتبادل المصالح، فإنها تفقد دورها كمنارة للوعي وميدان لارتقاء الفكر.


إن إنقاذ الثقافة من هذا الانحدار يتطلب إعادة النظر في المعايير التي تحكم المشهد الثقافي. ينبغي أن تُمنح الأولوية للكفاءة، وأن يُعاد الاعتبار للعالم والمثقف الحقيقي، لا صاحب المنصب الفارغ. كما يجب على منظمي الفعاليات الثقافية أن يتحلوا بالشجاعة، وألا يسيروا وراء أهواء السلطة والنفوذ، بل يعملوا على خلق بيئة تكرّم أصحاب الفكر وتحتضن الإبداع.


لكن المشهد الذي نعيشه اليوم، حيث يتقدم الجهال ويتراجع العلماء، هو انعكاس لمجتمع يولي المصالح الآنية أهمية أكبر من الثقافة والمعرفة.


ويبقى الأمل قائمًا في أن يعود الناس إلى احترام العلم وأهله، وأن تشرق شمس القيم الحقيقية من جديد، فينهض المجتمع بالعلماء الذين هم عماده، لا بالمتصدرين الفارغين الذين ينطقون جهلًا ويُصفق لهم نفاقًا.

أضف تعليقك

‫‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.

‫تعليقات الزوار

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *